سورة فاطر - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} ما عليكَ إلا الإنذارُ وأمَّا الإسماعُ البتةَ فليس من وظائِفك ولا حليةَ لك إليه في المطبوعِ على قلوبهم {إِنَّا أرسلناك بالحق} أي محقَّين أو محقّاً أنتَ أو إرسالاً مصحُوباً بالحقِّ ويجوزُ أنْ بتعلَّق بقوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} أي بشيراً بالوعدِ الحقِّ ونذيراً بالوعيدِ الحقِّ {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ} أي ما من أمةٍ من الأممِ الدَّارجةِ في الأزمنةِ الماضيةِ {إِلاَّ خَلاَ} أي مَضَى {فِيهَا نَذِيرٌ} من نبيَ أو عالمٍ يُنذرهم. والاكتفاءُ بذكرهِ للعلمِ بأنَّ النَّذارةَ قرينةُ البشارةِ لا سيِّما وقد اقترنا آنِفاً ولأنَّ الإنذارَ هو الأنسبُ بالمقَامِ {وَإِن يُكَذّبُوكَ} أي تموا على تكذيبكَ فلا تُبالِ بهم وبتكذيِبهم {فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأممِ العاتيةِ {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي المعجزاتِ الظَّاهرةِ الدَّالةِ على نُبوُّتهم {وبالزبر} كصُحفِ إبراهيمَ {وبالكتاب المنير} كالتَّوارةِ والإنجيلِ والزَّبورِ على إرادةِ التَّفصيلِ دُون الجمعِ وبجوزُ أنْ يُرادَ بهما واحدٌ والعطفُ لتغايرِ العُنوانينِ {ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ} وضعَ الموصولَ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيِّزِ الصَّلةِ والإشعارِ بعلَّةِ الأخذِ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي بالعقوبة وفيه مزيدُ تشديدٍ وتهويلٍ لها.
{أَلَمْ تَرَ} استئنافٌ مسوق لتقريرِ ما قبله من اختلافِ أحوالِ النَّاسِ ببيان أنَّ الاختلافَ والتَّفاوتَ أمرٌ مطَّردٌ في جميعِ المخلوقات من النَّباتِ والجمادِ والحيوانِ. والرُّؤيةُ قلبية أي ألم تعلمَ {أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بذلك الماءِ. والالتفات لإظهارِ كمال الاعتناءِ بالفعلِ لما فيه من الصُّنعِ البديعِ المنبىءِ عن كمالِ القُدرةِ والحكمةِ {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أي أجناسُها أو أصنافُها على أنَّ كلاًّ منها ذُو أصنافٍ مختلفةٍ. أو هيئاتُها وأشكالُها أو ألوانُها من الصُّفرةِ والخُصرةِ والحُمرةِ وغيرِها وهو الأوفقُ لما في قوله تعالى: {مّنَ الجبال جُدَدٌ} أي ذو جديد أي خططٍ وطرائقَ ويقالُ جدة الحمارِ للخطةِ السَّوداءِ على ظهره وقرئ: {جُدُد} بالضَّمِّ جمع جديدةٍ بمعنى الجدة وجَدَد بفتحتينِ وهو الطَّريقُ الواضحُ {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها} بالشِّدةِ والضَّعفِ {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} عطفٌ على بيضٌ أو على جدُد كأنَّه قيل: ومن الجبالِ مُخطَّطٌ ذو جُددٍ ومنها ما هو على لونٍ واحدٍ غرابيبَ وهو تأكيد لمضمر يفسِّره ما بعدِه فإنَّ الغربيبَ. تأكيدٌ للأسودِ كالفاقعِ للأصفرِ والقانِي للأحمرِ ومن حقِّ التَّأكيدِ أنْ يتبعَ المؤكَّدَ، ونظيرُه في الصِّفةِ قولُ النَّابغةِ:
والمؤمنِ العائذاتِ الطَّيرَ يمسحُها ***
وفي مثلهِ مزيدٌ تأكيدٍ لما فيه التَّكرارِ باعتبار الإضمارِ والإظهارِ.


{وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه} أي ومنهم بعضٌ مختلفٌ ألوانُه أو وبعضُهم مختلفٌ ألوانُه على ما مرَّ في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله} وإيراد الجملتينِ اسميتين مع مشاركتِهما لما قبلَهُما من الجملةِ الفعليةِ في الاستشهادِ بمضمونِهما على تباينِ النَّاسِ في الأحوالِ الباطنةِ لما أنَّ اختلافَ الجبالِ والنَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ فيما ذُكر من الألوانِ أمرٌ مستمرٌ فعبَّر عنه بما يدلُّ على الاستمرارِ. وأمَّا إخراجُ الثَّمراتِ المختلفةِ فحيثُ كان أمراً حادثاً عبَّر عنه بما يدلُّ على الحدوثِ ثم لما كان فيه نوعُ خفاءً علَّق به الرُّؤية بطريقِ الاستفهامِ التقريريِّ المُنبىءِ عن الحمل عليها والتَّرغيبِ فيها بخلافِ أحوالِ الجبالِ والنَّاسِ وغيرِهما فإنَّها مُشاهدَة غنيَّةٌ عن التأمُّلِ فلذلك جُرِّدتْ عن التَّعليقِ بالرُّؤيةِ فتدبَّرْ. وقولُه {كذلك} مصدرٌ تشبيهيٌّ لقوله تعالى مختلفٌ أي صفة لمصدره المؤكِّد تقديرُه مختلفٌ اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلافِ الثِّمارِ والجبال وقرئ: {ألواناً} وقرئ: {والدَّوابَ} بالتَّخفيفِ مبالغةً في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ وقوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} تكملة لقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} بتعيين من يخشاه عزَّ وجلَّ من النَّاس بعد بيانِ اختلافِ طبقاتِهم وتباينِ مراتبِهم، أمَّا في الأوصافِ المعنويَّةِ فبطريقِ التَّمثيلِ وأما في الأوصافِ الصُّوريةِ فبطريقِ التَّصريحِ توفية لكلَّ واحدةٍ منهما حقَّها اللائقَ بها من البيانِ أي إنَّما يخشاه تعالى بالغيب العالمون به عزَّ وجلَّ وبما يليق به من صفاتِه الجليلةِ وأفعالِه الجميلةِ لما أنَّ مدارَ الخشية معرفةُ المخشيِّ والعلمُ بشؤونه فمن كان أعلم به تعالى كانَ أخشى منه عزَّ وجلَّ كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أنا أخشاكُم لله وأتقاكُم له» ولذلك عقَّب بذكرِ أفعالِه الدَّالَّةِ على كمالِ قُدرتِه وحيث كان الكَفَرةُ بمعزلٍ من هذه المعرفةِ امتنع إنذارُهم بالكلِّية. وتقديمُ المفعولِ لأن المقصودَ حصرُ الفاعليَّةِ ولو أُخِّر انعكسَ الأمرُ وقرئ برفعِ الاسمِ الجليلِ ونصبِ العلماءِ على أنَّ الخشية مستعارةٌ للتَّعظيمِ فإنَّ المعظَّم يكونُ مهيباً {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوبِ الخشيةِ لدلالتهِ على أنَّه معاقبٌ للمصرِّ على طغيانِه غفورٌ للتائب عن عصيانِه.
{إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} أي يداومُون على قراءته أو متابعةِ ما فيه حتَّى صارتْ سمةً لهم وعُنواناً. والمرادُ بكتابِ الله تعالى القُرآنُ. وقيلَ: جنسُ كتبِ الله فيكون ثناءً على المصدِّقين من الأممِ بعد اقتصاصِ حالِ المكذِّبين منهم وليسَ بذاك فإنَّ صيغةَ المضارعِ مناديةٌ باستمرارِ مشروعيةِ تلاوتِه والعملِ بما فيه واستتباعِهما لما سيأتي من توفيةِ الأجورِ وزيادةِ الفضلِ. وحملُها على حكايةِ الحالِ الماضيةِ مع كونِه تعسُّفاً ظاهراً ممَّا لا سيبلَ إليه كيفَ لا والمقصودُ التَّرغيبُ في دينِ الإسلامِ والعملُ بالقُرآن النَّاسخِ لما بين يديهِ من الكتبِ فالتَّعرضُ لبيانِ حقِّيتها قبل انتساخِها والإشباعُ في ذكرِ استتباعها لما ذُكر من الفوائدِ العظيمةِ مَّما يُورث الرَّغبةَ في تلاوتِها والإقبالِ على العملِ بها.
وتخصيصُ التِّلاوةِ بما لم ينسخ منها باطلٌ قطعاً لما أنَّ الباقي مشروعاً ليس إلا حكمها لكنْ لا من حيثُ أنَّه حكَّمها بل من حيثُ حكّم القرآنَ وأما تلاوتُها فبمعزلٍ من المشروعيَّةِ واستتباع الأجر بالمرَّة فتدبر {وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيةً} كيفما اتَّفق من غيرِ قصدٍ إليهما وقيل: السِّرُّ في المسنونةِ والعلانيةُ في المفروضةِ {يَرْجُونَ تجارة} تحصيلَ ثوابٍ بالطَّاعةِ وهو خبرُ إنَّ. وقوله تعالى {لَّن تَبُورَ} أي لن تكسدَ ولن تهلكَ بالخسرانِ أصلاً صفةٌ لتجارةَ جيء بها للدِّلالةِ على أنَّها ليستْ كسائرِ التِّجاراتِ الدَّائرةِ بين الرِّبحِ والخُسرانِ لأنَّه اشتراءُ باقٍ بفانٍ. والإخبارُ برجائِهم من أكرمِ الأكرمينَ عِدَةٌ قطعيةٌ بحصولِ مرجوِّهم.


وقولُه تعالى: {لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} متعلقٌ بلَنْ تبورَ على معنى أنَّه ينتفي عنها الكسادُ وتنفُق عند الله تعالى ليوفيَهم أجورَ أعمالِهم {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} على ذلك من خزائنِ رحمتِه ما يشاءُ وقيل: بمضمرٍ دلَّ عليه ما عُدَّ من أفعالهم المرضيَّةِ أي فعلُوا ذلك ليوفيَهم إلخ وقيل بيرجُون على أنَّ اللام للعاقبةِ {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} تعليلٌ لما قبلَه من التَّوفيةِ والزِّيادةِ أي غفورٌ لفرطاتِهم شكورٌ لطاعاتِهم أي مجازيهم عليها، وقيل: هُو خبرُ إنَّ الذينَ ويرجُون حالٌ من واوِ أنفقُوا.
{والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} وهو القرآنُ ومِن للتَّبيين أو الجنسِ ومن للتَّبعيضِ وقيل: اللَّوحَ ومِن للابتداءِ {هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي أحقه مصدِّقاً لما تقدَّمه من الكتبِ السَّماويةِ حالٌ مؤكِّدة، لأنَّ حقِّيتَه تستلزمُ موافقتَه إيَّاهُ في العقائدِ وأصولِ الأحكامِ {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} محيطٌ ببواطنِ أمورِهم وظواهرِها فلو كانَ في أحوالِك ما ينافي النُّبوة لم يُوحِ إليك مثلُ هذا الحقَّ المعجزِ الذي هو عيارٌ على سائرِ الكتبِ. وتقديمُ الخبيرِ للتَّنبيه على أنَّ العمدةَ هي الأمورُ الرُّوحانيَّةُ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} أي قضينا بتوريثةِ منك أو نورِّثه. والتَّعبيرُ عنه بالماضِي لتقرره وتحققه وقيل: أورثناهُ من الأممِ السَّالفةِ أي أخَّرناه عنهم وأعطيناهُ {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وهم علماءُ الأمةِ من الصَّحابةِ ومن بعدهم ممَّن يسيرُ سيرتَهم أو الأمة بأسرِهم فإنَّ الله تَعال اصطفاهم على سائرِ الأممِ وجعلهم أمةً وسطاً ليكونُوا شهداءَ على النَّاسِ واختصَّهم بكرامةِ الانتماءِ إلى أفضلِ رسلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وليس من ضرورةِ وراثةِ الكتابِ مراعاتُه حقَّ رعايتِه لقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} الآيةَ {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} بالتَّقصيرِ في العلمِ به وهو المرجأُ لأمرِ الله {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} يعملُ به في أغلبِ الأوقاتِ ولا يخلُو من خلط السَّيءِ {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} قيل هم السّابقونَ الأوَّلُون من المهاجرينَ والأنصارِ وقيل: هم المُداومون على إقامةِ مواجبهِ علماً وعملاً وتعليماً وفي قوله تعالى بإذنِ الله أي بتيسيره وتوفيقِه تنبيةٌ على عزَّةِ منالِ هذه الرُّتيةِ وصعوبةِ مأخذِها وقيل: الظَّالمُ الجاهلُ والمقتصدُ المتعلِّم والسَّابقُ العالمُ وقيل الظالمُ المجرمُ والمقتصدُ الذي خلطَ الصَّالحَ بالسَّيءِ والسَّابقُ الذي ترَّجحتْ حسناته بحيثُ صارتْ سيِّئاتُه مكفَّرةً. وهو معنى قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «وَأَمَّا الذين سَبَقُواْ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَمَّا المقتصد فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون فى طول المحشر ثم يتلقاهم الله تعالى برحمته» وقد رُوي أنَّ عمرَ رضي الله عنه قال وهو على المنبرِ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سابقُنا سابقٌ ومقتصدُنا ناجٍ وظالمُنا مغفورٌ له» {ذلك} إشارةٌ إلى السَّبقِ بالخيراتِ وما فيه من معنى البُعدِ مع قُربِ العهد بالمشارِ إليه للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه في الشَّرفِ {هُوَ الفضل الكبير} من الله عزَّ وجلَّ لا يُنال إلا بتوفيقِه تعالى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6